فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن كثير:

وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} أي: إنما جُوزُوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه، وليس هذا قياسًا منهم للربا على البيع؛ لأن المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن، ولو كان هذا من باب القياس لقالوا: إنما الربا مثل البيع، وإنما قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} أي: هو نظيره، فلم حرم هذا وأبيح هذا؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع، أي: هذا مثل هذا، وقد أحل هذا وحرم هذا!. اهـ.

.قال الفخر:

يحتمل أن يكون هذا الكلام من تمام كلام الكفار، والمعنى أنهم قالوا: البيع مثل الربا، ثم إنكم تقولون {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} فكيف يعقل هذا؟ يعني أنهما لما كانا متماثلين فلو حل أحدهما وحرم الآخر لكان ذلك إيقاعًا للتفرقة بين المثلين، وذلك غير لائق بحكمة الحكيم فقوله: {أَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} ذكره الكفار على سبيل الاستبعاد، وأما أكثر المفسرين فقد اتفقوا على أن كلام الكفار انقطع عند قوله: {إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} وأما قوله: {أَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} فهو كلام الله تعالى ونصه على هذا الفرق ذكره إبطالًا لقول الكفار إنما البيع مثل الربا، والحجة على صحة هذا القول وجوه:
الحجة الأولى:
أن قول من قال: هذا كلام الكفار لا يتم إلا بإضمار زيادات بأن يحمل ذلك على الاستفهام على سبيل الإنكار، أو يحمل ذلك على الرواية من قول المسلمين، ومعلوم أن الإضمار خلاف الأصل، وأما إذا جعلناه كلام الله ابتداء لم يحتج فيه إلى هذا الإضمار، فكان ذلك أولى.
الحجة الثانية:
أن المسلمين أبدًا كانوا متمسكين في جميع مسائل البيع بهذه الآية ولولا أنهم علموا أن ذلك كلام الله لا كلام الكفار، وإلا لما جاز لهم أن يستدلوا به، وفي هذه الحجة كلام سيأتي في المسألة الثانية.
الحجة الثالثة:
أنه تعالى ذكر عقيب هذه الكلمة قوله: {فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله وَمَنْ عَادَ فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا} فظاهر هذا الكلام يقتضي أنهم لما تمسكوا بتلك الشبهة وهي قوله: {إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} فالله تعالى قد كشف عن فساد تلك الشبهة وعن ضعفها، ولو لم يكن قوله: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} كلام الله لم يكن جواب تلك الشبهة مذكورًا فلم يكن قوله: {فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ} لائقًا بهذا الموضع. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} أي إنما الزيادة عند حلول الأجل آخرًا كمثل أصل الثمن في أوّل العقد، وذلك أن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك؛ فكانت إذا حلّ ديْنها قالت للغريم: إما أن تَقْضِي وإما أن تُرْبِي، أي تزيد في الدَّين.
فحرم الله سبحانه ذلك وردّ عليهم قولهم بقوله الحق: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} وأوضح أن الأجل إذا حلّ ولم يكن عنده ما يؤدّي أُنْظِر إلى المَيْسرة.
وهذا الربا هو الذي نسخه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله يوم عرفة لمّا قال: «ألا إن كل ربًا موضوع وإن أوّل رِبا أضعه رِبانا رِبَا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله» فبدأ صلى الله عليه وسلم بعمِّه وأخص الناس به.
وهذا من سنن العدل للإمام أن يُفيض العدل على نفسه وخاصته فيستفيض حينئذ في الناس. اهـ.

.قال البقاعي:

وفي الآية إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى قضى بنزع نور العقل من المربي ودل على ذلك بقوله: {ذلك} أي الأمر البعيد من الصواب {بأنهم} أي المربون {قالوا} جدالًا لأهل الله: {إنما البيع} أي الذي تحصرون الحل فيه يا أهل الإسلام {مثل الربا} في أن كلًا منهما معاوضة، فنحن نتعاطى الربا كما تتعاطون أنتم البيع، فما لكم تنكرونه علينا؟ فَجعْلهُم الربا أصلًا انسلاخ مما أودعه الله في نور العقل وحكم الشرع وسلامة الطبع من الحكمة؛ والبيع كما عرفه الفقهاء نقل ملك بثمن.
وقال الحرالي: هو رغبة المالك عما في يده إلى ما في يد غيره، والشراء رغبة المستملك فيما في يد غيره بمعاوضة بما في يده مما رغب عنه، فلذلك كل شار بائع {وأحل} أي والحال أنه أحل {الله} الذي له تمام العظمة المقتضية للعدل {البيع} أي لما فيه من عدل الانتفاع، لأنه معاوضة على سبيل النصفة للتراضي من الجانبين، لأن الغبن فيه غير محقق على واحد منهما، لأن من اشترى ما يساوي درهمًا بدرهمين يمكن أن يبيعه بعد ذلك لرواجه أو وجود راغب فيه لأمر دعاه إليه بثلاثة {وحرم الربا} لما فيه من اختصاص أحد المتعاملين بالضرر والغبن والآخر بالاستئثار على وجه التحقيق، فإن من أخذ درهمًا بدرهمين لا يرجى خير ما فاته من ذلك الوجه أصلًا، وكذلك ربا المضاعفة وهو ما إذا طلب دينه فكان الغريم معسرًا فألزمه بالدفع أو الزيادة في الدين فإنه ليس في مقابلة هذا الزائد شيء ينتفع به المدين.
قال الحرالي: فيقع الإيثار قهرًا وذلك الجور الذي يقابله العدل الذي غايته الفضل، فأجور الجور في الأموال الربا، وأجور الجور في الربا الربا كالذي يقتل بقتيل قتيلين، وكل من طفف في ميزان فتطفيفه ربا بوجه ما؛ ولذلك تعددت أبواب الربا وتكثرت؛ قال قال صلى الله عليه وسلم: «الربا بضع وسبعون بابًا، والشرك مثل ذلك وهذا رأسه» وهو ما كانت تتعامل به أهل الجاهلية، من قولهم: إما أن تربي وإما أن تقضي، ثم لحق به سائر أبوابه، فهو انتفاع للمربي وتضرر للذي يعطي الربا، وهذا أشد الجور بين العبيد الذين حظهم التساوي في أمر بلغة الدنيا؛ فكما أعلمهم سبحانه وتعالى أثر حكمة الخير في الإنفاق أعلمهم أثر حكمة الشر في الربا في دار الآخرة وفي غيب أمر الدنيا وكما أنه يعجل للمنفق خلفًا في الدنيا كذلك يعجل للمربي محقًا في الدنيا حسب ما صرح به الخطاب بعد هذا الإشعار- انتهى.
ومادة بيع بجميع تقاليبها التسعة يائية وواوية مهموزة وغير مهموزة: بيع وعيب وعبي وبوع وبعو ووبع ووعب وعبو وعبا- تدور على الاتساع، فالبيع يدور على التصرف التام بالقوة تارة وبالفعل أخرى، والذي بالفعل يكون بالملك تارة وبغيره أخرى، والذي بالملك يكون بالتحصيل تارة وبالإزالة أخرى، ولا يخفى أن كل ذلك من الاتساع فمن الذي بالقوة: باعه من السلطان سعى به إليه، وامرأة بائع إذا كانت نافقة لجمالها، والبياعة السلعة، والبيّع كسيد: المساوم، وأبعته بمعنى عرضته للبيع؛ ومن الذي بالفعل من غير ملك: باع على بيعه أي قام مقامه في المنزلة والرفعة وظفر به، وكذا أبعت الرجل فرسًا أي أعرته إياه ليغزو عليه؛ ومن الذي بالملك إزالة: بعته وأبعته أي أزلت ملكي عنه بثمن، واستباعه سأله أن يبيعه منه، وانباع نفق، وانباع لي في سلعته سامح في بيعها وامتد إلى الإجابة إليه؛ ومن الذي بالملك تحصيلًا: باع الشيء بمعنى اشتراه.
قال الفارابي في ديوان الأدب: قال أبو ثروان: بع لي تمرًا بدرهم- يريد اشتر، وهذا الحرف من الأضداد، وابتاعه: اشتراه.
والعيب بمعنى الوصمة توسع الكلام في العرض وسببه توسع الإنسان في قول أو فعل على غير منهاج العقل، والعيبة وعاء من أدم يوضع فيه المتاع وهي أيضًا الصدر والقلب وموضع السر، والعائب من اللبن الخادر أي الآخذ طعم حموضة إما من العيب وإما لأنه انتشر عن طعمه الأول؛ والعباية ضرب من الأكسية لاتساعه عن الأزر ونحوها طولًا وعرضًا والرجل الجافي الثقيل تشبيهًا بها في الخشونة والثقالة، وتعبئة الجيش تهيئته من موضعه كأن مراكزه عياب له وضعت كل فرقة منه في عيبتها، وعيبك من الجزور نصيبك، والتعابي أن يميل رجل مع قوم وآخر مع آخرين لأن ذلك اتساع بالفريقين وانتشار من الرجلين؛ ومن المهموز العبء- بالكسر وهو الحمل الثقيل من أي شيء كان لأنه بقدر وسع الحامل أو فوق وسعه وهو أوسع مما دونه من الأحمال، وهو أيضًا العدل لأنه يسع ما يوضع فيه والمثل، ويفتح لأن الاثنين أوسع من الواحد، والعبء بالفتح ضياء الشمس وهو واضح في السعة، وعبأ المتاع والأمر كمنع هيأ كعبأه تعبئة لأنه أعطاه ما يسعه ووضعه في مواضع تسعه، والطيب صنعه وخلطه فاتسع بالخلط وانتشرت رائحته بالصنعة؛ والعباء كساء معروف وهو يسع ما يلف به كالعباية، والأحمق الثقيل الوخم وتقدم تخريجه ويمكن جعله من العبء بمعنى الحمل وبمعنى الثقيل والمعبأة كمكنسة خرقة الحائض لأنها بقدر ما يسعه الفرج، والمعبأ كمقعد المذهب لاتساعه للذاهب فيه، وما أعبأ به ما أصنع، وبفلان: ما أبالي أي ما أوسع الفكر فيه- انتهى المهموز؛ والباع قدر مد اليدين والشرف والكرم، والبوع أبعاد خطو الفرس في جريه، وبسط اليد بالمال، والمكان المنهضم أي المطمئن في لصب الجبل- واللصب بالكسر الشعب الصغير من الجبل أضيق من اللهب وأوسع من الشقب، واللهب مهواة ما بين كل جبلين أو الصدع في الجبل أو الشعب الصغير، والشعب بالعين الطريق في الجبل ومسيل الماء في بطن أرض أو ما انفرج بين الجبلين، والشقب بالقاف صدع يكون في لهوب الجبال ولصوب الأودية دون الكهف توكر فيه الطير- وباعة الدار ساحتها، والبائع ولد الظبي إذا باع في مشيه، وانباع العرق سال، والحية بسطت نفسها بعد تحوّيها لتساور؛ والوبّاعة الاست لاتساعها بخروج الخارج منها، وكذبت وبّاعته أي حبق يعني ضرط، والوباعة من الصبي ما يتحرك من يافوخه لامتداده إلى الحركة، ووعبه كوعده أخذه أجمع، كأوعبه واستوعبه، وأوعب جمع، والشيء في الشيء أدخله كله أي وسعه حتى دخل فيه، والوعب من الطرق: الواسعة، وبيت وعيب واسع؛ والبعو الجناية والجرم لأن ذلك يوسع الكلام في العرض، وهو أيضًا العارية، وبعاه قمره وأصاب منه، وبعاه بالعين أصابه بها كأنه وسع لعينه فيه حظًا. اهـ.

.قال الفخر:

مذهب الشافعي رضي الله عنه أن قوله: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} من المجملات التي لا يجوز التمسك بها، وهذا هو المختار عندي، ويدل عليه وجوه:
الأول: أنا بينا في أصول الفقه أن الاسم المفرد المحلي بلام التعريف لا يفيد العموم ألبتة، بل ليس فيه إلا تعريف الماهية، ومتى كان كذلك كفى العمل به في ثبوت حكمه في صورة واحدة.
والوجه الثاني: وهو أنا إذا سلمنا أنه يفيد العموم، ولكنا لا نشك أن إفادته العموم أضعف من إفادة ألفاظ الجمع للعموم، مثلًا قوله: {وَأَحَلَّ الله البيع} وإن أفاد الاستغراق إلا أن قوله وأحل الله البيعات أقوى في إفادة الاستغراق، فثبت أن قوله: {وَأَحَلَّ الله البيع} لا يفيد الاستغراق إلا إفادة ضعيفة، ثم تقدير العموم لابد وأن يطرق إليها تخصيصات كثيرة خارجة عن الحصر والضبط، ومثل هذا العموم لا يليق بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنه كذب والكذب على الله تعالى محال، فأما العام الذي يكون موضع التخصيص منه قليلًا جدًا فذلك جائز لأن إطلاق لفظ الاستغراق على الأغلب عرف مشهور في كلام العرب، فثبت أن حمل هذا على العموم غير جائز.
الوجه الثالث: ما روي عن عمر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا وما سألناه عن الربا، ولو كان هذا اللفظ مفيدًا للعموم لما قال ذلك فعلمنا أن هذه الآية من المجملات.
الوجه الرابع: أن قوله: {وَأَحَلَّ الله البيع} يقتضي أن يكون كل بيع حلالًا، وقوله: {وَحَرَّمَ الربا} يقتضي أن يكون كل ربا حرامًا، لأن الربا هو الزيادة ولا بيع إلا ويقصد به الزيادة، فأول الآية أباح جميع البيوع، وآخرها حرم الجميع، فلا يعرف الحلال من الحرام بهذه الآية، فكانت مجملة، فوجب الرجوع في الحلال والحرام إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم. اهـ.